روى مالك في "موطئه" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ( تركت فيكم أمرين، لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله، وسنة نبيه )، فكتاب الله هو حبل الله المتين، وهو الصراط المستقيم، وهو النور المبين .
لقد نزل هذا القرآن ليكون منهج حياة، ودستور أمة، ونموذجاً واقعياً للتطبيق العملي، تنمو الحياة في ظله وتترقى، لا ليقبع في الزاوية الضيقة من الحياة، كما تقبع الأبحاث النظرية في زوايا الجامعات ومراكز الأبحاث .
نزل هذا القرآن، ليميز الأمة المستخلَفة في الأرض، الشاهدة على الناس، المكلفة بأن تقود البشرية كلها إلى خالقها وبارئها. فكان تحقيق هذا المنهج في حياة الأمة المسلمة هو الذي يمنحها ذلك التميز في الشخصية والكيان، وفي الأهداف والتوجهات. وهو - كذلك - الذي يمنحها مكان القيادة الذي خُلقت له، وأُخرجت للناس من أجله. وهي بغير هذا القرآن ضائعة تائهة، مبهمة الملامح، مجهولة السمات، مهما اتخذت لها من زخارف الحياة ومباهجها !
نزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليبني عقيدة التوحيد في قلوب الأمة، وليخوض بهذه العقيدة معركة الحق والباطل، والهدى والضلال .
ولقد حقق القرآن بمنهجه الرباني خوارق في تكييف نفوس الصحابة رضي الله عنهم، الذين تلقوه مرتلاً متتابعًا، وتأثروا به يومًا يومًا، وانطبعوا به، وعملوا به في كل شؤون حياتهم .
أما اليوم فقد هجر المسلمون هذا القرآن، واتخذوه كتاب متعة للثقافة، وكتاب تعبد للتلاوة فحسب، لا منهج تربية وسلوك، ودستور حياة للعمل والتطيبق؛ وقد جاء ليقودهم إلى الطريق الأقوم والأرشد؛ هجروه فلم ينتفعوا من القرآن كما ينبغي؛ لأنهم خرجوا عن منهجه الذي رسمه العليم الخبير؛ فالقرآن إنما نزل للعمل أولاً، ولتحكيمه في شؤون الحياة كافة، فهذا هو المقصد الأساس من نزوله، وهذا هو المبتغى من تكفُّل الله بحفظه .
وترك العمل بالقرآن والإعراض عنه نوع من أنواع هجره، بل هو أعظم أنواع الهجر، الذي حذرنا الله منه وذم فاعله، قال تعالى: { وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا } (الفرقان:30)؛ ففي هذه الآية أعظم تخويف لمن هجر القرآن العظيم، فلم يعمل بما فيه من الحلال والحرام، والآداب والمكارم، ولم يعتقد بما فيه من العقائد والأحكام، ولم يعتبر بما فيه من الزواجر والقصص والأمثال .
وقد ترتب على هجر المسلمين للقرآن تبعات عديدة ونتائج خطيرة، على المستويات كافة:
فعلى مستوى الأفراد، أصبح سلوك كثير من المسلمين، لا يمت إلى أخلاق القرآن بصلة، بدءًا بترك تحية الإسلام إفشاءً وردًا، ومرورًا بالتحاسد والتنابذ بالألقاب والسخرية من بعضهم البعض، وانتهاء بالتعامل بأنواع الحرام، من رباً وزنى، وأكل لأموال الناس بالباطل، ونحو ذلك من المحرمات التي نهى الله عنها في كتابه الكريم .
وكان من تبعات هجر القرآن على مستوى الأفراد أيضًا، هجر لغة القرآن والزهد فيها، والرغبة عنها، والأخذ بلغة أولئك القوم؛ لأنها لغة العصر والمعاصرة، وسبيل التطور، ومظهر من مظاهر الرقي والحضارة!!. فأنت ترى أحدهم يتفاخر ويتباهى أنه يرطن بلغة الأعاجم، ولم يعد يعتمد العربية في كلامه، بل ربما يخجل أن يتكلم بها؛ لأنها - بحسب زعمه - لغة ميتة لا حياة فيها، ولأنها لا تناسب تطورات العصر ونهضته !
ثم إن هؤلاء الأفراد - فوق ذلك - قد جعلوا من أهل الغرب قدوتهم، ومن سلوك أولئك القوم وجهتم؛ فهم يقلدونهم في الصغيرة والكبيرة من الرذائل، وفي القبيح والمذموم من العادات والصَّرْعات؛ فإن أطالوا شعورهم، كان على هؤلاء أن يفعلوا الشيء نفسه، وإن كشف أولئك القوم عوراتهم وأظهروا سوآتهم! وقس على ذلك أنواع السلوك الأخرى، من الاختلاط بين الجنسين، والزواج بين المثلين، والعلاقات المحرمة والشاذة التي يأباها وينفر منها وعنها، كل من بقي على فطرته السليمة .
وكان من تبعات هجر القرآن على مستوى المؤسسات التعليمية، ما تقوم به المؤسسات التعليمية اليوم في بعض دولنا الإسلامية من إعادة النظر في المناهج الشرعية، ومن ثم صياغتها وتعديلها وفق المقياس الغربي .
وقد وصل الأمر أن يُفرض على المسلمين تغيير مناهجهم التربوية والتعليمية، بما يوافق ويتفق مع توجهات وسياسات وأطماع الدول الكبرى، وكل هذا من تبعات هجر القرآن، وتسليم الأمة قيادها لغير شريعة القرآن .
أما على المستوى الاجتماعي والأسري، فحدث ولا حرج، حيث أخذت الدعوات من هنا وهناك تنطلق بأعلى صوتها، مطالبة إلى تحرير المرآة وفك أسرها، وداعية - بما أوتيت من قوة وزخم ودعم إلى استرداد حقوق المرأة التي اغتصبها منها الرجل والمجتمع في آن معًا! فكان من تبعات هجر القرآن على هذا المستوى، خروج المرأة من بيتها تزاحم الرجل، وتقاسمه مجالات العمل، بعد أن تركت عملها الأساس؛ وما تبع ذلك من اختلاط في مرافق الحياة كافة، بدءًا بالأُسر المسلمة، ومرورًا بالشوارع والنوادي الرياضية، وانتهاء بالجامعات ومراكز العلم، وكل هذا جرى بدعاوى التحرر والتقدم .
أما على مستوى الدول والحكومات فالأمر أدهى وأمرُّ، والخَطْب أعظم وأجلُّ، فقد أصبح القرآن - ممثلاً بشريعة الإسلام - مصدرًا من مصادر التشريع لأكثر دول الإسلام، ولم يعد هو المصدر الوحيد لتشريعاتها وقوانينها، بل أصبح مصدرًا رديفًا ومساويًا لمصادر الغرب والشرق !!
وحتى هذه المشاركة ( الخجولة ) للقرآن في معظم دساتير دول الإسلام، قد انحصرت شيئًا فشيئًا إلى أن أصبح مجالها في زاوية ضيقة من زوايا الحياة، هي زاوية قوانين الأحوال الشخصية. ولم يُكتف بهذا فحسب، بل أصبحت قوانين الأحوال الشخصية في كثير من دول الإسلام، تكيف وتعدل بحسب ما تقتضيه طبيعة العصر وحاجته؛ كمنع تعدد الزوجات، أو وضع شروط لهذا التعدد .
وهكذا، فقد كان من أكبر تبعات هجر القرآن، ترك شرائع الأرض تحكم وتتحكم بشريعة السماء، وترك أهل الأهواء والشهوات يسيِّرون أمر من كان يُفترض منهم أن يكونوا شهداء على الناس .
هذه بعض من كل من تبعات هجر القرآن؛ وقد آن الأوان لهذه الأمة - أفرادًا ومؤسسات - أن تعود إلى قرآنها بعد تلك القطيعة التي طال بها الزمن، والتي حذر منها سيد البشر؛ وأن تعود إلى رشدها، بعد ذلك الفصام النكد بينها وبين قرآنها، وجعل منها أمة لا وزن لها بين الأمم .
ولا شك، أن المخرج من هذه التبعات معروف للجميع، للعالم والجاهل، والصغير والكبير، وهو العودة إلى كتاب الله، وهذا كلام سهل ويسير، والأهم والأجدر قبل هذا وبعده هو العمل والتطبيق، والانتقال من حيز القول إلى حيز الفعل، فهل إلى مرد من سبيل ؟ ويبقى الأمل بشرط العمل [